فصل: تفسير الآيات (19- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (19- 31):

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان} غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين، أو ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة {مُّخَلَّدُونَ} لا يموتون {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ} لحسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم {لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} وتخصيص المنثور لأنه أزين في النظر من المنظوم {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} ظرف أي في الجنة وليس ل {رَأَيْت} مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع في كل مرئي تقديره وإذا اكتسبت الرؤية في الجنة {رَأَيْتَ نَعِيماً} كثيراً {وَمُلْكاً كَبِيراً} واسعاً. يروى أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه. وقيل: ملك لا يعقبه هلك، أو لهم فيها ما يشاؤون أو تسلم عليهم الملائكة ويستأذنون في الدخول عليهم {عاليهم} بالنصب على أنه حال من الضمير في {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب. وبالسكون: مدني وحمزة على أنه مبتدأ خبره {ثِيَابُ سُندُسٍ} أي ما يعلوهم من ملابسهم ثياب سندس رقيق الديباج.
{خُضْرٌ} جمع أخضر {وَإِسْتَبْرَقٌ} غليظ يرفعهما حملاً على الثياب: نافع وحفص، وبجرهما: حمزة وعلي حملاً على {سُندُسٍ} وبرفع الأول وجر الثاني أو عكسه: غيرهم {وَحُلُّواْ} عطف على {وَيَطُوفُ} {أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفي سورة (الملائكة): {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [الحج: 23]. قال ابن المسيب: لا أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة: واحدة من فضة وأخرى من ذهب وأخرى من لؤلؤ. {وسقاهم رَبُّهُمْ} أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص. وقيل: إن الملائكة يعرضون عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم ويقولون: لقد طال أخذنا من الوسائط فإذا هم بكاسات تلاقي أفواههم بغير أكف من غيب إلى عبد {شَرَاباً طَهُوراً} ليس برجس كخمر الدنيا لأن كونها رجساً بالشرع لا بالعقل ولا تكليف ثم، أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة يقال لأهل الجنة {إِنَّ هَذَا} النعيم {كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} لأعمالكم {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} محموداً مقبولاً مرضياً عندنا حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} تكرير الضمير بعد إيقاعه اسماً لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليستقر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله مفرقاً إلا حكمة وصواباً ومن الحكمة الأمر بالمصابرة {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} عليك بتبليغ الرسالة واحتمال الأذية وتأخير نصرتك على أعدائك من أهل مكة {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ} من الكفرة للضجر من تأخير الظفر {ءَاثِماً} راكباً لما هوى إثم داعياً لك إليه {أَوْ كَفُوراً} فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه، لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل ما هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر، فنهى أن يساعدهم على الأولين دون الثالث.
وقيل: الآثم عتبة لأنه كان ركاباً للمآثم والفسوق. والكفور: الوليد لأنه كان غالياً في الكفر والجحود. والظاهر أن المراد كل آثم وكافر أي لا تطع أحدهما، وإذا نهي عن طاعة أحدهما لا بعينه فقد نهى عن طاعتهما معاً ومتفرقاً. ولو كان بالواو لجاز أن يطيع أحدهما لأن الواو للجمع فيكون منهياً عن طاعتهما معاً لا عن طاعة أحدهما، وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه كان عن طاعتهما جميعاً أنهى. وقيل: (أو) بمعنى (ولا) أي ولا تطع آثماً ولا كفوراً {واذكر اسم رَبِّكَ} صلِّ له {بُكْرَةً} صلاة الفجر {وَأَصِيلاً} صلاة الظهر والعصر.
{وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ} وبعض الليل فصّل صلاة العشاءين {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} أي تهجد له هزيعاً طويلاً من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه.
{إِنَّ هَؤُلآء} الكفرة {يُحِبُّونَ العاجلة} يؤثرونها على الآخرة {وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ} قدامهم أو خلف ظهورهم {يَوْماً ثَقِيلاً} شديداً لا يعبئون به وهو القيامة لأن شدائده تثقل على الكفار {نَّحْنُ خلقناهم وَشَدَدْنَا} أحكمنا {أَسْرَهُمْ} خلقهم عن ابن عباس رضي الله عنهما والفراء {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً} أي إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع {إِنَّ هذه} السورة {تَذْكِرَةٌ} عظة {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} بالتقرب إليه بالطاعة له واتباع رسوله {وَمَا تَشَاءُونَ} اتخاذ السبيل إلى الله. وبالياء: مكي وشامي وأبو عمرو. ومحل {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} النصب على الظرف أي إلا وقت مشيئة الله، وإنما يشاء الله ذلك ممن علم منه اختياره ذلك. وقيل: هو لعموم المشيئة في الطاعة والعصيان والكفر والإيمان فيكون حجة لنا على المعتزلة {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بما يكون منهم من الأحوال {حَكِيماً} مصيباً في الأقوال والأفعال {يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ} وهم المؤمنون {فِى رَحْمَتِهِ} جنته لأنها برحمته تنال وهو حجة على المعتزلة لأنهم يقولون قد شاء أن يدخل كلاً في رحمته لأنه شاء إيمان الكل، والله تعالى أخبر أنه يدخل من يشاء في رحمته وهو الذي علم منه أنه يختار الهدى {والظالمين} الكافرين لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها ونصب بفعل مضمر يفسره {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} نحو: أوعد وكافأ.

.سورة المرسلات:

مكية وهي خمسون آية.

.تفسير الآيات (1- 24):

{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)}
{والمرسلات عُرْفاً * فالعاصفات عَصْفاً * والناشرات نَشْراً * فالفارقات فَرْقاً * فالملقيات ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً} أقسم سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيهن، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي، أو نشرن الشرائع في الأرض، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أو حين ففرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكراً إلى الأنبياء عليهم السلام عذراً للمحقين أو نذراً للمبطلين. أو أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله {ويجعله كِسَفًا} [الروم: 48] فألقين ذكراً إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها، واما نذراً للذين لا يشكرون وينسبون ذلك إلى الأنواء، وجعلن ملقيات للذكر باعتبار السببية. {عُرْفاً} حال أي متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضه بعضاً، أو مفعول له أي أرسلن للإحسان والمعروف. و{عَصْفاً} و{نَشْراً} مصدران. {أَوْ نُذْراً} أبو عمرو وكوفي غير أبي بكر وحماد. والعذر والنذر مصدران من عذر إذا محا الإساءة، ومن أنذر إذا خوف على فعل كالكفر والشكر. وانتصابهما على البدل من {ذِكْراً} أو على المفعول له.
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ} إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة {لَوَاقِعٌ} لكائن نازل لا ريب فيه، وهو جواب القسم ولا وقف إلى هنا لوصل الجواب بالقسم {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} محيت أو ذهب بنورها وجواب {فَإِذَا} محذوف والعامل فيها جوابها وهو وقوع الفصل ونحوه، و{النجوم} فاعل فعل يفسره {طُمِسَتْ} {وَإِذَا السماء فُرِجَتْ} فتحت فكانت أبواباً {وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ} قلعت من أماكنها {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} أي وقتت كقراءة أبي عمرو أبدلت الهمزة من الواو، ومعنى توقيت الرسل تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} أخرت وأمهلت، وفيه تعظيم لليوم وتعجيب من هوله والتأجيل من الأجل كالتوقيت من الوقت {لِيَوْمِ الفصل} بيان ليوم التأجيل وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} تعجيب آخر وتعظيم لأمره {وَيْلٌ} مبتدأ وإن كان نكرة لأنه في أصله مصدر منصوب ساد مسد فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه {سلام عَلَيْكُمُ} [الرعد: 24] {يَوْمَئِذٍ} ظرفه {لّلْمُكَذِّبِينَ} بذلك اليوم خبره.
{أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} الأمم الخالية المكذبة {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} مستأنف بعد وقف، وهو وعيد لأهل مكة أي ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم.
{كذلك} مثل ذلك الفعل الشنيع {نَفْعَلُ بالمجرمين} بكل من أجرم {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ} بما أوعدنا {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاءٍ مَّهِينٍ} حقير وهو النطفة {فجعلناه} أي الماء {فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ} مقر يتمكن فيه وهو الرحم ومحل {إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} الحال أي مؤخر إلى مقدار من الوقت معلوم قد علمه الله وحكم به وهو تسعة أشهر أو ما فوقها أو ما دونها {فَقَدَّرْنَا} فقدرنا ذلك تقديراً {فَنِعْمَ القادرون} فنعم المقدرون له نحن أو فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن، والأول أحق لقراءة نافع وعلي بالتشديد، ولقوله {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ} بنعمة الفطرة.

.تفسير الآيات (25- 50):

{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً} هو كفت الشيء إذا ضمه وجمعه وهو اسم ما يكفت كقولهم الضمام لما يضم وبه انتصب {أَحْيَاءً وأمواتا} كأنه قيل: كافتة أحياء وأمواتاً، أو بفعل مضمر يدل عليه {كِفَاتاً} وهو تكفت أي تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها، والتنكير فيهما للتفخيم أي تكفت أحياء لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ} جبالاً ثوابت {شامخات} عاليات {وأسقيناكم مَّاءً فُرَاتاً} عذاباً {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ} بهذه النعمة {انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي يقال للكافرين يوم القيامة سيروا إلى النار التي كنتم بها تكذبون {انطلقوا} تكرير للتوكيد {إلى ظِلٍّ} دخان جهنم {ذِى ثلاث شُعَبٍ} يتشعب لعظمه ثلاث شعب وهكذا الدخان العظيم يتفرق ثلاث فرق {لاَّ ظَلِيلٍ} نعت ظل أي لا مظل من حر ذلك اليوم وحر النار {وَلاَ يُغْنِى} في محل الجر أي وغير مغنٍ لهم {مِنَ اللهب} من حر اللهب شيئاً {إِنَّهَا} أي النار {تَرْمِى بِشَرَرٍ} هو ما تطاير من النار {كالقصر} في العظم. وقيل: هو الغليظ من الشجر الواحدة قصرة {كَأَنَّهُ جمالت} كوفي غير أبي بكر جمع جمل جمالات غيرهم جمع الجمع {صُفْرٌ} جمع أصفر أي سود تضرب إلى الصفرة، وشبه الشرر بالقصر لعظمه وارتفاعه، وبالجمال للعظم والطول واللون {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ} بأن هذه صفتها.
{هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} وقرئ بنصب اليوم أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية وعن قوله {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] فقال: في ذلك اليوم مواقف في بعضها يختصمون وفي بعضها لا ينطقون. أو لا ينطقون بما ينفعهم فجعل نطقهم كلا نطق.
{وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ} في الاعتذار {فَيَعْتَذِرُونَ} عطف على {يُؤْذَنُ} منخرط في سلك النفي أي لا يكون لهم إذن واعتذار {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ} بهذا اليوم {هذا يَوْمُ الفصل} بين المحق والمبطل والمحسن والمسيء بالجزاء {جمعناكم} يا مكذبي محمد {والأولين} والمكذبين قبلكم {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ} حيلة في دفع العذاب {فَكِيدُونِ} فاحتالوا عليّ بتخليص أنفسكم من العذاب. والكيد متعدٍ تقول: كدت فلاناً إذا احتلت عليه {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ} بالبعث.
{إِنَّ المتقين} من عذاب الله {فِى ظلال} جمع ظل {وَعُيُونٍ} جارية في الجنة {وفواكه مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي لذيذة مشتهاة {كُلُواْ واشربوا} في موضع الحال من ضمير {المتقين} في الظرف الذي هو {فِى ظلال} أي هم مستقرون في ظلال مقولاً لهم ذلك {هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} فأحسنوا تجزوا بهذا {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذِّبِينَ} بالجنة {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ} كلام مستأنف خطاب للمكذبين في الدنيا على وجه التهديد كقوله:
{اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] {قَلِيلاً} لأن متاع الدنيا قليل {إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} كافرون أي إن كل مجرى يأكل ويتمتع أياماً قلائل ثم يبقى في الهلاك الدائم {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} بالنعم {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا} اخشعوا لله وتواضعوا إليه بقبول وحيه واتباع دينه ودعوا هذا الاستكبار {لاَ يَرْكَعُونَ} لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على استكبارهم، أو إذا قيل لهم صلوا لا يصلون {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} بالأمر والنهي {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} بعد القرآن {يُؤْمِنُونَ} أي إن لم يؤمنوا بالقرآن مع أنه آية مبصرة ومعجزة باهرة من بين الكتب السماوية فبأي كتاب بعده يؤمنون؟! والله أعلم.

.سورة النبأ:

مكية وهي أربعون آية.

.تفسير الآيات (1- 30):

{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}
{عَمَّ} أصله {عن ما} وقرئ بها، ثم أدغمت النون في الميم فصار {عما} وقرئ بها، ثم حذفت الألف تخفيفاً لكثرة الاستعمال في الاستفهام وعليه الاستعمال الكثير، وهذا استفهام تفخيم للمستفهم عنه لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية {يَتَسَاءلُونَ} يسأل بعضهم بعضاً أو يسألون غيرهم من المؤمنين، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث ويسألون المؤمنين عنه على طريق الاستهزاء {عَنِ النبإ العظيم} أي البعث وهو بيان للشأن المفخم وتقديره: عم يتساءلون يتساءلون عن النبإ العظيم {الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} فمنهم من يقطع بإنكاره ومنهم من يشك. وقيل: الضمير للمسلمين والكافرين وكانوا جيعاً يتساءلون عنه، فالمسلم يسأل ليزداد خشية، والكافر يسأل استهزاء {كَلاَّ} ردع عن الاختلاف أو التساؤل هزؤاً {سَيَعْلَمُونَ} وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون عياناً أن ما يستاءلون عنه حق {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} كرر الردع للتشديد و(ثم) يشعر بأن الثاني أبلغ من الأول وأشد.
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض} لما أنكروا البعث. قيل لهم: ألم يخلق من أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة فلم تنكرون قدرته على البعث وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات؟ أو قيل لهم: لم فعل هذه الأشياء والحكيم لا يفعل عبثاً وإنكار البعث يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعل؟ {مهادا} فراشاً فرشناها لكم حتى سكنتموها {والجبال أَوْتَاداً} للأرض لئلا تيمد بكم {وخلقناكم أزواجا} ذكر أو أنثى {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} قطعاً لأعمالكم وراحة لأبدانكم والسبت القطع {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً} ستراً يستركم عن العيون إذا أردتم إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} وقت معاش تتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً} سبع سموات {شِدَاداً} جمع شديدة أي محكمة قوية لا يؤثّر فيها مرور الزمان أو غلاظاً غلظ كل واحدة مسيرة خمسمائة عام {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} مضيئاً وقّاداً أي جامعاً للنور والحرارة والمراد الشمس {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} أي السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض، أو الرياح لأنها تنشئ السحاب وتدر أحلافه فيصح أن تجعل مبدأ للإنزال، وقد جاء أن الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب {مَاءً ثَجَّاجاً} منصباً بكثرة {لِّنُخْرِجَ بِهِ} بالماء {حَبّاً} كالبر والشعير {وَنَبَاتاً} وكلأ {وجنات} بساتين {أَلْفَافاً} ملتفة الأشجار واحدها لف كجذع وأجذاع، أو لفيف كشريف وأشراف، أو لا واحد له كأوزاع، أو هي جمع الجمع فهي جمع لف واللف جمع لفاء وهي شجرة مجتمعة.
ولا وقف من {أَلَمْ نَجْعَلِ} إلى {أَلْفَافاً} الوقف الضروري على {أَوْتَاداً} و{مَعَاشاً}.
{إِنَّ يَوْمَ الفصل} بين المحسن والمسيء والمحق والمبطل {كَانَ ميقاتا} وقتاً محدوداً ومنتهى معلوماً لوقوع الجزاء أو ميعاداً للثواب والعقاب.
{يَوْمَ يُنفَخُ} بدل من {يَوْمُ الفصل} أو عطف بيان {فِى الصور} في القرن {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} حال أي جماعات مختلفة أو أمماً كل أمة مع رسولها {وَفُتِحَتِ السماء} خفيف: كوفي أي شقت لنزول الملائكة {فَكَانَتْ أبوابا} فصارت ذات أبواب وطرق وفروج ومالها اليوم من فروج {وَسُيِّرَتِ الجبال} عن وجه الأرض {فَكَانَتْ سَرَاباً} أي هباء تخيّل الشمس أنه ماء {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} طريقاً عليه ممر الخلق فالمؤمن يمر عليها والكافر يدخلها. وقيل: المرصاد الحد الذي يكون فيه الرصد أي هي حد الطاغين الذين يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم، أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها لأن مجازهم عليها {للطاغين مَئَاباً} للكافرين مرجعاً {لابثين} ماكثين حال مقدرة من الضمير في {للطاغين} حمزة {لَّبِثِينَ} واللبث أقوى إذ اللابث من وجد منه اللبث وإن قل، واللبث من شأنه اللبث والمقام في المكان {فِيهَا} في جهنم {أَحْقَاباً} ظرف جمع حقب وهو الدهر ولم يرد به عدد محصور بل الأبد كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية، ولا يستعمل الحقب والحقبة إلا إذا أريد تتابع الأزمنة وتواليها. وقيل: الحقب ثمانون سنة. وسئل بعض العلماء عن هذه الآية فأجاب بعد عشرين سنة {لابثين فِيهَا أَحْقَاباً}.
{لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً} أي غير ذائقين حال من ضمير {لابثين} فإذا انقضت هذه الأحقاب التي عذبوا فيها بمنع البرد والشراب بدلوا بأحقاب أخر فيها عذاب آخر وهي أحقاب بعد أحقاب لا انقطاع لها. وقيل: هو من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه حقاب فينتصب حالاً عنهم أي لابثين فيها حقبين جهدين و{لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً} تفسير له. وقوله {إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} استثناء منقطع أي {لاَ يَذُوقُونَ} في جهنم أو في الأحقاب {بَرْداً} روْحاً ينفس عنهم حر النار أو نوماً ومنه منع البرد البرد، {وَلاَ شَرَاباً} يسكن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً ماء حاراً يحرق ما يأتي عليه {وَغَسَّاقاً} ماء يسيل من صديدهم. وبالتشديد: كوفي غير أبي بكر {جَزَاءً} جوزوا جزاء {وفاقا} موافقاً لأعمالهم مصدر بمعنى الصفة أو ذا وفاق. ثم استأنف معللاً فقال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} لا يخافون محاسبة الله إياهم أو لم يؤمنوا بالبعث فيرجوا حساباً {وَكَذَّبُواْ بئاياتنا كِذَّاباً} تكذيباً وفعّال في باب فعّل كله فاش {وَكُلَّ شئ} نصب بمضمر يفسره {أحصيناه كتابا} مكتوباً في اللوح حال أو مصدر في موضع إحصاء، أو أحصيناً في معنى كتبنا لأن الاحصاء يكون بالكتابة غالباً. وهذه الآية اعتراض لأن قوله {فَذُوقُواْ} مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات أي فذوقوا جزاءكم والالتفات شاهد على شدة الغضب {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} في الحديث: «هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار».